موضوع: التجارة فى الإسلام الأحد أبريل 20, 2014 10:19 pm
التجارة فى الإسلام
يقول الحقُّ - تبارك وتعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فالوسطيَّة دعامةٌ من دعائِم النِّظام الإسلامي، وهي من أهمِّ دعامات الحياة الاجتماعيَّة للمسلمين، وهى مطلوبةٌ في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدنيا أوِ العمل للآخرة؛ لذلك يرفُض الإسلام في نظامِه المالي تِلك الفرديَّة المتطرِّفة التي يرعاها النِّظام الرأْسمالي، والتي تتجاهل حقوقَ الجماعة، وتُتيحُ للفَرْدِ أن ينكر مصالِح الجماعة ويتناساها في سبيل تَحقيق أعلى نسبةٍ من الرِّبْح مُمكنة. كما لا يقرُّ الإسلام رأسمالية الدولة التي يتبنَّاها النِّظام الاشتراكي، والتي تضحي بِحقوق الفرْد وحريَّته من أجْل مصلحة الجماعة، والتي قد تتطرَّف إلى مدى أبعدَ من الاستِغْلال الرأسمالي لحاجات المُجْتمع. لكن الإسلام في ربْطِه الأبدي بين المادَّة والروح، فِطْرةَ الإنسان التي فُطِر عليها - يدعو أفراد المجتمع المؤمنين لأنْ يتسامَوا في دوافعِهم الذاتيَّة؛ لأنَّ للتضحية من أجل الإخاء الإسلامي أجزلَ الثواب عند الله؛ لأنَّ المسلم في عمله إنَّما يبتغي وجه الله أوَّلاً ويرعاه في تصرُّفاته. فيحبب الإسلام إلى التجار إرْخاص الأسعار للتيسير على النَّاس؛ لما في ذلك من مرضاة الله والفوْز بثوابه. ولقد نهى الإسلام عن التغالي في الرِّبْح، وعن الفحْش في الكسب؛ لأنَّ قلَّة الربْح مع كثرة البَيْع تؤدِّيان إلى وفْرة المكسب مع التيْسير على المُسلمين، وكان عليُّ بن أبي طالب يدورُ في سوق الكوفة ويقول: معاشرَ التُّجار، خذوا الحقَّ تَسْلموا، ولا تردُّوا قليل الربح فتُحرموا كثيرَه. وإذا كان الجالب مُجاهدًا في سبيل الله - كما جاء الحديثُ الشريف - لأنَّه يرفع الحرجَ عن الناس وييسِّر لهم أمورَ معاشِهم، فإنَّ المحتكر خارجٌ على دين الله، كافرٌ بنعمة الإسلام، كما يقرِّر الرسولُ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في الحديث نفسِه. والاحتِكار في نظَر الحنفيَّة هو: شراء طعامٍ ونحوٍه وحبسُه إلى الغلاء أربعين يومًا، وعند الشافعية: شراء القُوت في وقت الغلاء ليُمْسِكه ويبيعه بعد ذلك بأكثرَ من ثمنِه للتضييق حينئذ، وعند الحنابلة مثل ذلك، بِمعنى أنَّ الاحتكار هو حبْس الشَّيء انتظارًا لغلائِه، وهو الأمر المرادف للامتناع عن البيع. ويرى الدكتور محمد سلاَّم مدكور في كتابه "الاحتكار وموقف التشريع الإسلامي منه" أنَّ الاحتِكار المحظور في الشريعة الإسلاميَّة هو: حبس أيِّ شيءٍ تشتدُّ حاجة النَّاس إليْه، ويستعملونه في حياتِهم، ويتضرَّرون من حبْسِه عنهم، ويستوي في ذلك أن يكون ذلك الحبس نتيجةَ شراء أو اختزان، وأن يكون الشراء في مِصْرٍ أو غيرِ مِصْرٍ، وأن يكون ذلك الشيء طعامًا أو غير طعام، ويشمل ذلك ما اشتراه في وقت الرُّخْص؛ ليرفع سِعْره، ويُغليه على النَّاس عند الضيق والاحتياج، وهو ما يتَّفق مع قول أبي يوسف: كل ما أضر بالنَّاس حبسُه فهو احتكار، وإن كان ذهبًا أو ثيابًا. والأحاديث الواردة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في النهي عن الاحْتِكار وإظهار بشاعة جريمتِه كثيرة، نذكر منها: ((الجالب مرزوقٌ والمحتَكِر ملعون))؛ رواه ابن ماجه والدارمي[1]. والإسلام يُحارب الاحتكار لما فيه من إهدارٍ لحريَّة التِّجارة والصناعة، وتحكُّم في الأسواق يَستطيعُ معه المحتكِر أن يفرِض ما شاء من أسْعار على النَّاس، فيُرهِقُهم ويُضاربُهم في معاشِهم وكسْبِهم، فوق أنَّهُ يسدُّ أبواب الفُرَص أمام الآخَرين ليعملوا أو يرتزقوا كما يرتزق المحتكِر، ويقتل روح المنافسة التي تؤدِّي إلى الإتْقان والتفوُّق في الإنتاج. وقد رأيْنا بعْضَ المحتَكِرين يلجؤون إلى إتلاف فائضِ إنتاجِهم لرفْع الأسعار، كما حدث في البرازيل، عندما أُحْرقتْ أطنانًا من البُنِّ بينما الملايين لا تَجد حاجاتِها منه، وكم رأيْنا صيدليات تَحتكِر الأدوية، وتَمنعها عن المرضى الذين يُعانون آلام أمراضِهم؛ دافعها إلى الاحتكار الجشَعُ والسعي وراء كسب حرام، والاتِّجار في آلام البشَر الذين يَموتون في سبيل أن تزيدَ أرباح المحتكِر. إنَّ الاحتِكار جريمةٌ ضدَّ الإنسانيَّة تستوجِبُ الطَّرد من رحمة الله؛ ولذلك قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون))؛ لأنَّ المحتكرين - كما يقول جون آيز، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية - تائِهون في مُطاردة المال الذي يَجب أن يكون الوسيلةَ إلى الحياة الطيِّبة، لا غاية في ذاته، حتى نسُوا الغاية وأمعنوا في التعلُّق بالوسيلة. خطر الاحتِكار على الاقتصاد العالمي أصبح في غير حاجة إلى مزيد من البيان، وكلُّنا نعلم كيف تغلْغل الاحتِكار - الظَّاهر والخفي - في أكثَر ميادين الإنتاج العالمي، وكيف تَحالف المحتَكِرون من أقْطاب المال عبْرَ حدودِهم مع زُملائِهم في بلادٍ أخرى، ونَجحوا في تحديد الأسعار التي تؤتيهِم الربْحَ الفاحش، وخلقوا الأزماتِ، وتآمَروا على بَخس أثْمان الموادِّ الخام التي تنتجها البلاد النامية؛ إضرارًا بأكثرَ من ثُلُثي سكَّان الأرض، ولازالتْ جهود الأمم المتَّحدة - العناصر الطيبة فيها - تتوالى وتتعثَّر في مُحاولة التخفيف من ويلات هذا الداء الوبيل. إنَّ التَّحريم الإسلامي للاحتِكار يَسري على كلِّ أنْواعه: المحلي والعالمي؛ لأنَّ هدف المحتَكِر واحد، وهو التَّحكُّم في ضرورات النَّاس. وقد اتَّخذ الاحتِكار الدولي في العصْر الحديث صورًا رهيبة، لاسيَّما بعد ما تحقَّق من تطوُّر في أساليب الإنتاج، أدَّى إلى قيام المشاريع الضخمة التي يعجز الأفراد عن القيام بها، ثم النظرة المادية البحتة للاقتِصاد، وترك الحريَّة المطلقة للملكيَّة بغير حدود. وقدِ استعاضت الشَّركات الكبرى عن المُنافسة في سبيل الإجادة وخفْض الأسعار لصالح البشريَّة، بِهذه الصور البشعة من أنواع الاحتكار، فرأينا: 1- نظام الشَّركة القابضة التي تقوم بشِراء معظم الأسْهُم في الشَّركات الأعضاء – ولنقل: إنها شركات السَّيَّارات على سبيل المثال - وبذلك يكون لها سلطةُ تَحْديد الأسْعار في جَميع شرِكات السيارات، في عدَّة دول أو في العالم كلِّه. 2- الاندماج: وهو اتِّحاد شركتين أو أكثر، فتشتري إحدى الشَّركات جميعَ أسهُم الشَّركات الأُخرى، فلا يصبح في الوجود إلا شركةٌ واحدة، تَحتكر السِّلعة التي كانت تُنْتجها الشَّركات المندمِجة، وتقضي على المنافسة. 3- اتِّحاد الثمن: وفي هذا النَّوع من الاحتكار يتَّفق المنتجون فيما بينهم على تَحديد الأثمان، أو تَحديد كمية الإنتاج؛ ليحْصُلوا على أعظم ربح، وقد يكون هذا الاتِّفاق شفويًّا؛ لكنَّه احتِكار غير مركَّز في هيئة واحدة. وهناك أنواع أخرى من الاحتكارات كشفت عنها لجنة التجارة الاتحادية في الولايات المتَّحدة الأمريكية، وعجزت كلُّ الوسائل القانونيَّة هناك عن التغلُّب عليْها، أو الحدِّ من سلطانِها واستغلالِها وانحرافاتِها. ولا شكَّ أنَّ حرب التَّجويع التي تشنُّها بعض الدول الاستِعمارية المنتجة للسلع الغذائية، كمنع القمح عن مناطق المجاعة أو الذُّرة - هو من سبيل الاحتكار الذي حرَّمه الإسلام، احتكار يقطع الأواصرَ الإنسانيَّة، ويُحارب الرَّحمة، ويزرع الأحْقاد بين بني الإنسان. أين هذا من موقفِ المسلمين في مشارِق الأرْض ومغاربِها عام الرَّمادة، يوم أن أصاب القحط الجزيرة العربية، فانْهمرت المؤن من مِصر وإفريقيا والعِراق، وكل أرْضٍ عَلَتْ فيها رايةُ الحقِّ - لتنقذ إخوةً في الإنسانية، حتَّى كانت قوافل عمرو بنِ العاص بالنَّجدة أوَّلها في المدينة المنوَّرة، وآخرها في الفسْطاط على النيل. أين هذا من شعار الإسلام الذي يرفعه للبشرية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. إنَّه أمر البشرية بأنْ تتعارف وتتراحم، وتدرك أن لا فضْلَ لأحدٍ عند الله خالقِها إلا بالتَّقْوى، ولبشاعة جريمة الاحتِكار نرى أنَّ الإجماع يكادُ يكون تامًّا بين فُقهاء المسلمين على حربه ومقاومته، وأوَّل مراحل هذه الحرب أن يؤمر المحتكِر بالبيع بسعْر المثل، فإذا لم يبِع باع عليه القاضي. كما يُجمعون على استحْقاق المحتكر لعقوبة التَّعزير، وهي عقوبة كان يوقِعُها المحتسب؛ ويقول عنها ابن القيم: "يتغيَّر التعزير بِحسب اقتِضاء المصلحة له، زمانًا أو مكانًا أو حالاً، ويَختلف تقدير العقوبة فيه حسب خطر الجريمة، وتأصُّلها في نفْسِ المُجرم". لذلك فقد تصل عقوبة التَّعزير إلى الحبس أو الضرْب، أو العقوبة الماليَّة على جرائم الاحتِكار أو مخالفة التسعير. لكن هذا الشخص الذي يستحلُّ إخفاء طعامِ النَّاس، أو منْع دواء عن مريض، ألا يُعَدُّ مفسدًا في الأرض بما يُثير من قلَقٍ في النُّفوس، واضطِراب في الأوضاع، ومرارةٍ في الصدور؟ ألا ينطبق عليْه قول الحقِّ - تبارك وتعالى -: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33]. إنَّ مثل هذا الرَّجل حربٌ على الإسلام، يحادُّ الله ورسوله بما يسعى فيه من زرْع الآلام والأحقاد بين النَّاس، بينما الإسلام يسعى إلى السلام وبسْط الرَّحْمة والطُّمأنينة في النُّفوس. ولو أنَّ أهل التِّجارة والصناعة والزِّراعة اتَّجهوا في عملِهم إلى الله، واحتسبوا في سبيل الله، وآمَنوا بأنَّ الله ذو حقٍّ في المال، بل هو الخالقُ الرازقُ مقسِّم الأرْزاق - لمَا وجدوا سببًا للخُصومة والفرْقة بسبب المال، ولسعَوْا إلى تَحصيله وإنْمائه بِهذه العقيدة؛ لأنَّ البسطةَ في المال والضيق فيه مرهونانِ بِمشيئة الله. {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]. وطالما اعتقدوا أيضًا أنَّه لابدَّ أن يكون وضع الرِّزق في معايش النَّاس على هذا النَّحو من السَّعة والضِّيق لصالح المجتمع وأمْنِه؛ {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، طالما اعتقدوا هذا وذاك، فلا مجال في سعْيِهم ونشاطهم للبَغْضاء والشحناء، ولا للحسَد والحقد، والسبيل إلى الانتِفاع بنعمة الله في المال بعد الجهْد، وإعداد النفْس للسَّعْي - هو التوجُّه إلى الله في إخلاص وفي عمل صالح؛ {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]. وفي ظلِّ هذه العقيدة الداعية إلى السَّلام، وإلى ابتغاء وجْهِ الله في كل سعْيٍ، من الممكن أن تَمضي المنافسة في عالم المالِ في إطار السلام ودعْوة الإسلام.