من وراء الزّجاج تمرّ أيّام طويلة يفصل بيني وبين العالم الخارجي زجاج ...كلّما طال سجني بين الجدران ووقوفي وراءه ازددت يقينا أنّ هذا الجدار الشّفّاف خلق من أجلي ومن أجل أمثالي الّذين أقعدهم العجز وسط آلامهم يشترّونها وينتظرون الفرج من الله .. فأردّد "جازاك الله خيرا يا مخترع هذا الّلوح الكاشف.
من وراء البلّور كنت ولا أزال ألتقي بأصدقائي الطّيور ..ولا أتوانى من أن أفتح النّافذة لأمدّها بالماء وفتات الخبز وأتابعها وهي تأكل وتشرب وترفرف حول الطّعام في رقصة اعتراف بالجميل وتسبيحا لله حمدا وشكرا على الحرّيّة والطّعام والماء... وغالبا ما تقترب قطّة لتشرب فتحلّق العصافير فزعة مغلوبة على أمرها ..تطير في الفضاء البعيدوروحها تتعلّق بالفضاء اقريب منّي .
ومن وراء البلّور رأيت عصفورا حطّ في شرفتي.. أكل حتّى شبع وشرب حتّى ارتوى ... ومرّت أمامه نملة .. نظر إليها العصفور .. اقترب منها ..وانتظرت أن يلتقطها بمنقاره لكنّه لم يفعل ..ومرّت النّملة بسلام .. ولم يحاول العصفور أن بأكلها والسّبب هو أنّه شبعان ..لأنّه ليس إنسانا كلّما أكل ازداد جوعا .
من وراء البلّور تتعلّق عيناي بالسّماء ..والسّماء تسحر روحي ..ولروحي قصّة عشق مع السّماء .... بألوانها الزّرقاء والدّكناء والرّماديّة والحمراء ....تحت هذه السّماء يوجد المعذّبون في الأرض ..فلقد رأيت يوما شيئا يتحرّك وسط كدس القمامة ظننته أحد الكلاب السّائبة فإذا هو إنسان ضاعت منه الملامح لم يعد يشبع الإنسان ..بردان .. جوعان .. يبحث بين الفضلات عن شيء يلبسه أو يستحقّ البيع فيبيعه ويشتري يثمنه ما يسدّ الرّمق ... وتحت نفس السّماء يمرّ حذوه السّكران يتمايل يمنة ويسرة ويرفع عقيرته بالغناء.. يتعثّرالسّكران ..يقع وسط كدس القمامة ...يحاول أن يقف فلا يستطيع ويسرع إليه الجوعان يساعده ثمّ يجمع ما تناثر من بقايا نقوده و يلتقط هاتفه يمعن فيه النّظر يقلّبه ثم يضعه صحبة النّقود في جيب السّكران .... ويلقي عليه نظرة أخيرة يملأها الأسف وأكاد أسمعه يقول " كم تراك أنفقت لكي تفقد عقلك وأنا أكاد أفقد حياتي جوعا .
ومن وراء البلّور أرى المقهى يعجّ بالرّجال ...وأرى نساء يغادرن بيوتهنّ في ساعة مبكّرة من الصّباح والظّلام لا يزال ينشر جناحه على الكون ...ولا يعدن إلاّ في آخر النّهار و قد أثقل الإرهاق منهنّ الخطى .. وملأ القهر أرواحهنّ... لتدخل الواحدة منهن إلى بيتها تقوم بكلّ الشؤون والزّوج أمام التّلفاز يقزقز الّلب وينثر القشور بفمه في كلّ مكان ...وكلّما طلب أحد أبناءه منه نقودا يقول " ليس لديّ مال ..اطلب من أمّك "......ولا يخجل هذا الرّجل وهو يقول "أنا الرّجل "
لديّ مال اذهب لأمّك " .....وبعد هذا يقول "أنا الرّجل" .
نسيمة اللجمي
صفاقس
3 / 2 / 2015